ادعمنا

اقتصاد السوق الاجتماعي - Social Market

يُعرف اقتصاد السوق الاجتماعي- Social Market بأنه نظام اقتصادي يعمل على تحقيق التوازن بين اقتصاد السوق الحر الذي بات نظاما اقتصاديا عالمي الانتشار ولا يمكن تجاوزه، والعدالة الاجتماعية. تطور نظام اقتصاد السوق الاجتماعي من مبادئ اقتصاد السوق الحر مع استلهام عناصر أخرى من الأنظمة الشيوعية التي عززت العدالة الاجتماعية، إذ يرى منظرو هذا الاتجاه أن اقتصاد السوق الاجتماعي لا يعتبر طريقا ثالثا بين الرأسمالية غير المحدودة والشيوعية المطبقة، ولكنه يهدف إلى الجمع بين المبادرة الخاصة عبر حماية حرية الاقتصاد وتقليل التضخم والتقدم الاجتماعي المتمثل بالرخاء والضمان الاجتماعي على أساس اقتصاد تنافسي. لذا يمكن القول بأن اقتصاد السوق الاجتماعي يرفض الاشتراكية والاقتصاد المخطط المركزي من ناحية، ومن ناحية أخرى يسعى لتفكيك الرأسمالية الاحتكارية. وتتدخل الدولة في اقتصاد السوق الاجتماعي ضمن قواعد محددة في اقتصاد السوق الحر لضمان عدم حدوث فوارق اجتماعية كبيرة. ويسمى هذا النهج أيضًا «الليبرالية المنظمة: ordo-liberal»، وهي مدرسة ألمانية بديلة لليبرالية التقليدية تعمل فيها الدولة على ضمان إنتاج السوق الحر نتائج قريبة من إمكاناته النظرية. 

خطط مؤسسو اقتصاد السوق الاجتماعي لجعله نظاماً متحرراً من تأثير النخب وأصحاب الامتيازات على الأسواق والمجتمع مثل النخب الإقطاعية أو الحزبية أو مجموعات المصالح الاقتصادية القوية مثل الاحتكارات أو التكتلات أو الصناديق الائتمانية. وهو ما يتيح لجميع أفراد المجتمع فرصاً متساوية للتطور الفردي بما يتجاوز أي حواجز طبقية سعياً في تحقيق الازدهار أو «الرفاهية للجميع». يوزع النظام فرص الاستهلاك وكذلك الثروة داخل المجتمع حسب نظام السوق المبني على قواعد تنظيمية، بينما يتم إضفاء الطابع الاجتماعي على التقدم والربح بواسطة قنوات التنقل وإعادة توزيع الدخل بمرور الوقت من قبل قوى السوق (دون تدخل حكومي). كما يهدف النظام إلى الحفاظ على آليات السوق الحرة مع ضمان العدالة الاجتماعية في الوقت ذاته عبر الحفاظ على التوازن بين ارتفاع معدل النمو الاقتصادي وانخفاض التضخم وانخفاض مستويات البطالة وظروف العمل الجيدة والرعاية الاجتماعية والخدمات العامة عن طريق تدخل الدولة.

 

نشأة نظام اقتصاد السوق الاجتماعي

تُعتبر ألمانيا الدولة السباقة في صنع هذا النظام وتطبيقه بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وفي تصريح لوزارة الاقتصاد الألمانية يعد "اقتصاد السوق الاجتماعي هو أساس مجتمع ألمانيا الحر والمفتوح والمتضامن". ويُعتبر وزير الاقتصاد الألماني لودفيج إيرهارد مؤسس اقتصاد السوق الاجتماعي والذي قَدِم إلى السلطة في الفترة (1949 إلى 1963) تحت رئاسة المستشار الألماني كونراد أديناور. من الجدير بالذكر، أن لودفيغ إيرهارد كان أول وزير اقتصاد بعد الحرب ومن ثم أصبح مستشار ألمانيا والذي عمل مع البروفيسور ألفريد مولر-آرماك على تطوير نظام السوق الاجتماعي بعد الحرب العالمية الثانية. ولا زالت أفكارهما تطبق بشكل كبير حتى يومنا هذا.

ارتبط نشوء نظام السوق الاجتماعي بالتنافس السياسي بين المعسكرين السوفييتي والغربي الذي تلا الحرب العالمية الثانية. إذ حقّق النموذج السوفييتي الذي انتشر في أوروبا الشرقية بوتيرة متسارعة مكاسب عديدة في مجالات التعليم والصحة والاهتمام بالبحث العلمي والصناعات الثقيلة، وهو ما ولّد مخاوف حقيقية في دول المجموعة الرأسمالية من الزحف الشيوعي غرباً وتهديد أنظمتها السياسية، خاصة مع الأزمات التي كانت تعصف بأنظمتها الرأسمالية بعد الأزمة المالية العالمية عام 1929 والتي أخرجت ملايين العمال من دائرة الإنتاج ومن ثم من دائرة الاستهلاك. وهو ما أوجب التغييرات التي حولت الأنظمة الرأسمالية إلى اقتصاد السوق الاجتماعي عبر المصالحة بين المنتجين أصحاب رؤوس الأموال وقوى الإنتاج والعمال عن طريق المفاوضات بين نقابات العمال ونقابات أصحاب رؤوس الأموال. تبنت الدول الأوروبية الغربية الأكثر تطوراً هذه التعديلات، وخاصة تلك التي حكمتها أحزاب اشتراكية ديموقراطية، كالدول الاسكندنافية وألمانيا وفرنسا. 

يرى العديد من الاقتصاديين أن اقتصاد السوق الاجتماعي نموذج مرن ومستدام، مستدلين على ذلك بتجارب عدة حول العالم من أهمها التجربة الألمانية. إذ ساعد هذا النظام ألمانيا على خلق معجزتها الاقتصادية بعد الحرب العالمية الثانية وجلب لها أيضًا سنوات عديدة من الاستقرار والازدهار وسمح لها بالتعامل بنجاح مع العواقب الاقتصادية لتقسيم ألمانيا. وتتجلى فاعلية هذا النموذج بشكل خاص في أوقات الأزمات مثل الأزمة المالية والاقتصادية للفترة 2008/2009. كما صمدت ألمانيا بشكل ملفت مقارنةً بالعديد من الدول الصناعية أمام الاضطرابات في الاقتصاد العالمي التي نجمت عن انهيار بنك ليمان براذرز. وأثبت الاقتصاد الألماني أيضًا أنه قوي بشكل ملحوظ عندما واجه أزمة الديون السيادية الأوروبية. ومن الجدير بالذكر خروج ألمانيا بدرس مستفاد من صعود النظام النازي في الثلاثينيات تمثل بضرورة تحقيق التوازن الاجتماعي في المجتمع. إذ إن الفجوات الكبيرة بين الفقراء والأغنياء تساهم في صعود سياسات اليمين المتطرف أو اليسار ذي الآثار المناهضة للديمقراطية. وكان لهذه الأفكار أثر هام على قانون العمل الألماني، مثل الإطار القانوني للحماية من الفصل أو العقود المحدودة أو المساومة الاجتماعية بين روابط أرباب العمل ونقابات العمال. 

 

أهداف اقتصاد السوق الاجتماعي 

سعى لودفيج إرهارد لخلق اقتصاد السوق الاجتماعي عبر مرحلتين، حملت المرحلة الأولى شعار «الرخاء للجميع» بينما حملت المرحلة الثانية شعار «الملكية للجميع». هدفت المرحلة الأولى إلى زيادة إبداع الاقتصاد وإنتاجيته في أسرع وقت ممكن عن طريق تخفيف قيود التنظيم أو إزالتها في بعض الأحيان. وعزّزت الخطة فرص الجميع في الحصول على وظيفة وفي أسرع وقت ممكن داخل اقتصاد ألمانيا (الغربي) المتعافي والمتنامي وهو ما يضمن للجميع نصيباً وافراً من الازدهار المتنامي في البلاد. كما يضمن حصول السكان على الضروريات الأساسية مثل الغذاء والملبس والمسكن. وبذلك يُعزّز هذا النظام البعد الاجتماعي عبر خلق وظائف أكثر إنتاجية وأعلى دخلًا مقارنةً بالاقتصاد المقيد والمخطط. وهو ما مهد لتحقيق المرحلة الثانية. 

سعت المرحلة الثانية من خطة إرهارد لتحقيق مبدأ «الملكية للجميع» عن طريق تشجيع امتلاك القطاع الخاص للمدخرات والمنازل المملوكة، بالتوازي مع منح شرائح واسعة من السكان إمكانية الوصول المتناسب إلى رأس المال في البلاد. تتصل هذه المساعي مع تأكيد إرهارد ومولر أرماك على أهمية الكرامة الإنسانية، لذا يسعى هذا النظام إلى الحد من التوزيع غير المتكافئ للدخل والثروة من قبل قوى السوق وهو ما يصون «العدالة الاجتماعية» المتصورة في المجتمع. وهنا تبرز فكرة إعادة توزيع الدخل والثروة للحفاظ على «السلام الاجتماعي». ويمكن العمل على ذلك من خلال أنظمة الضمان الاجتماعي المتوافقة مع السوق (الصحة والمعاشات التقاعدية وما إلى ذلك) وتعزيز الوصول إلى شبكات الأمان والرعاية الاجتماعية في حالات الطوارئ، وكذلك نظم التوزيع الإقليمية والأنظمة الضريبية الموجهة نحو الأداء. تفرض العدالة الاجتماعية أيضاً مساعدة الأسر ذات الدخل المحدود والتي من الممكن أن يتأثر مستوى دخلها سلباً بعوامل مثل المرض والعمر، بحيث لا يعتمد الناس في معيشتهم فقط على قدرتهم على العمل. 

تشمل هذه التدابير الحماية الفعّالة من الحوادث في مكان العمل، وحماية العمال عندما تُشكّل طبيعة وظائفهم خطورة جسمانية أو صحية عليهم. كما تعمل الدولة على ضمان تطبيق قوانين الحماية من إلغاء عقود العمل ومنع الفصل التعسفي الذي يرتكبه رب العمل عند طرد أي موظف بين ليلة وضحاها. بالإضافة إلى أشكال أخرى من المساعدة على شكل منح واستحقاقات السكن ومدفوعات الرعاية الاجتماعية مثل إجازة الأمومة. فضلاً عن قوانين أخرى تعوق استحواذ شركات كبرى على شركات أخرى واحتكار السوق أو اتفاق الشركات على أسعار البضائع، ما سيضر بالشركات الصغيرة أو يسبب إفلاسها. يضمن القانون أيضا حماية الملكية الخاصة، بينما يوفر الضمان الدستوري للمفاوضة الجماعية وحق الموظفين في أن يكون لهم صوت في شركاتهم.

يمكن اختصار أهداف اقتصاد السوق الاجتماعي بالجمع بين تحقيق أكبر قدر ممكن من الرخاء إلى جانب أفضل ضمان اجتماعي ممكن. وهو ما يجمع بين مزايا اقتصاد السوق الحر، مثل حرية اختيار الوظائف والتسعير الحر والمنافسة والاستفادة من وجود مجموعة كبيرة من السلع بأسعار زهيدة، بينما يخفف من مساوئ اقتصاد السوق الحر التي تتمثل في تشكيل الاحتكارات واتفاق التجار على الأسعار والبطالة. وهو ما يدعو الدولة بالضرورة للتدخل إلى حد ما في تنظيم السوق وتأمين المواطنين ضد المرض والبطالة من خلال شبكة من التأمينات الاجتماعية.

 

حوكمة اقتصاد السوق الاجتماعي 

تحافظ الدولة على إطار تنظيمي لنظام فعال للأسعار لضمان تحقيق النمو الاقتصادي والرفاه الاجتماعي، كما تسعى لضمان الاستقرار النقدي وحرية التعاقد والملكية الخاصة وخلق الأسواق المفتوحة، بالتوازي مع حفظ مبادئ المسؤولية وثبات السياسة الاقتصادية وتماسكها. يصحب هذه المبادئ التأسيسية ما يسمى بالمبادئ التنظيمية مثل سياسة المنافسة الصارمة واستيعاب الآثار الخارجية وبعض التدابير الاجتماعية. ويرى العديد من المنظرين أن المبدأ الأساسي لاقتصاد السوق الاجتماعي هو نظام الأسعار الفعال أو المرن، إذ يتم تحقيق التوزيع الأمثل للموارد الشحيحة من خلال الأسعار المرنة وهو ما يمكن تفعيله من خلال المنافسة الحرة. تحقيقا للاستقرار النقدي، لا بد من تخطيط سياسة اقتصادية طويلة الأجل تشمل استقرار الاقتصاد الكلي. وهو ما سيعزز ثقة المستثمرين والمستهلكين الدائمة في إطار اقتصادي مستقر وسيحفز المؤسسات على الاستعداد الدائم للاستثمار. وهو ما سيحسن قدرة المستهلكين على اتخاذ قرارات الاستهلاك طويلة الأجل.

كل هذا لا يمكن أن يتحقق إلا داخل مجتمع ديمقراطي في ظل سيادة القانون. إذ لا يمكن تطبيق هذه المتطلبات بدون وجود مشروع ديمقراطي ونظام قانوني فعّال وموثوق. وهو ما يؤكد ترابط النظام الاقتصادي مع النظام الاجتماعي والقانوني والسياسي. فقبول الدولة القوية لمبدأ التضامن هو شرط مسبق لاقتصاد السوق الاجتماعي. يمكن للإطار التنظيمي لاقتصاد السوق الاجتماعي أن يعمل بشكل جيد فقط عندما تتمكن الدولة من إنفاذ القواعد والقوانين. وهو ما يتضمن الإشراف على الجهات الفاعلة الاقتصادية وضمان التقيد بالقواعد والحوافز التي تفيد المجتمع ومعاقبة منتهكي هذه القواعد. ومن الضروري تطبيق جميع المبادئ التأسيسية لاقتصاد السوق الاجتماعي في آن واحد، إذ قد تفشل بعض المبادئ في تحقيق هدفها إذا تم تطبيقها بمعزل عن غيرها.

يبقى سؤال استنساخ تجربة هذا النموذج الاقتصادي في بلدان أو مجتمعات أخرى في العالم قائما وأساسيا لدى العديد من الدول الساعية لتحقيق مكاسب مماثلة. وهنا لا بد من توضيح أنه ليس من المفترض تنفيذ النموذج الألماني لاقتصاد السوق بحذافيره. فهو ليس برنامجًا ثابتًا يجب نسخه بشكل مطابق. إذ جادل والتر يوكين، الاقتصادي الألماني الشهير الذي ساهم في تطوير هذا النظام، أنه يمكن استخلاص المبادئ المجردة لنظام السوق لتكون مبادئ توجيهية لتطوير المؤسسات. كما أن على كل مجتمع يقبل هذه المبادئ التوجيهية أن يختار طريقته الخاصة في تطبيق هذه المبادئ التي يجب تكييفها مع الظروف الإقليمية والوطنية والثقافية. وهو ما سيؤدي بالضرورة إلى تمايز الخصائص الفعلية لاقتصادات السوق الاجتماعية بشكل ملحوظ.

 

 

المصادر والمراجع:

المركز الألماني للإعلام - وزارة الخارجية الألمانية، (2018). سبعون عاماً على اقتصاد السوق الاجتماعي. آخر مشاهدة: 6/4/2023، 1:00 am.

أحمد يوسف، (2020). اقتصاد السوق الاجتماعي في عصر الليبرالية الاقتصادية. نورث برس.  آخر مشاهدة: 6/4/2023، 1:00am.

REPERES, (2011). module n° 7 –explanatory notes – Social market economy - EN - final 6/6 Auteur & ©: Richard Stock, European Network for Education and Training (EUNET). Last seen: 6/4/2023, 1:00 am.

Wrobel, Ralph M. (2012) : The social market economy as a model for sustainable growth in developing and emerging countries, Economic and Environmental Studies (E&ES), ISSN 2081-8319, Opole University, Faculty of Economics, Opole, Vol. 12, Iss. 1, pp. 47-63. 

Horst Call, (2012). The concept of a social market economy and its impact on German labor law. Last seen: 6/4/2023, 1:00 am.

Christiane Toyka-Seid, (n.d). The social market. Last seen: 6/4/2023, 1:00 am.

Siegfried F. Franke and David Gregosz, (n.d). The Social Market Economy: What Does It Really Mean? Konrad Adenauer Stiftung. Last seen: 6/4/2023, 1:00 am.

إقرأ أيضاً

شارك أصدقائك المقال

ابقى على اﻃﻼع واشترك بقوائمنا البريدية ليصلك آخر مقالات ومنح وأخبار الموسوعة اﻟﺴﻴﺎﺳﻴّﺔ

ﺑﺘﺴﺠﻴﻠﻚ في ﻫﺬﻩ اﻟﻘﺎﺋﻤﺔ البريدية، فإنَّك ﺗﻮاﻓﻖ ﻋﻠﻰ اﺳﺘﻼم اﻷﺧﺒﺎر واﻟﻌﺮوض والمعلوﻣﺎت ﻣﻦ الموسوعة اﻟﺴﻴﺎﺳﻴّﺔ - Political Encyclopedia.

اﻧﻘﺮ ﻫﻨﺎ ﻟﻌﺮض إﺷﻌﺎر الخصوصية الخاص ﺑﻨﺎ. ﻳﺘﻢ ﺗﻮفير رواﺑﻂ ﺳﻬﻠﺔ لإﻟﻐﺎء الاشترك في ﻛﻞ ﺑﺮﻳﺪ إلكتروني.


كافة حقوق النشر محفوظة لدى الموسوعة السياسية. 2024 .Copyright © Political Encyclopedia